عدسة

الخال الذي نعتبره أبًا يعلمنا الحكمة بكلماته.. عبد الرحمن الأبنودي فتى الأمة المدلل

كتبت: منار باسم


خرج لنا من صعيد مصر يحمل خصوبة النيل على كتفيه، وآماله وأحلامه في كفيه متجها إلى العاصمة خلف حبه وشغفه للشعر والأدب، استطاع الرجل الصعيدي البسيط أن يخلق لنفسه مكانًا في وجدان الكثيرين، وذلك بسطوره المُعبِّرة والمُؤثِّرة في القلوب، حين تتسلل كلماته إلى أذنيك وتسمع قصائده وأغنياته؛ ستعرف من هو صاحب الكرامة والحرية والشجاعة والوطنية والبساطة والرُّقي، إنه الخال أو الملقب من البعض بفتي الأمة المُدلل، إنه ابن صعيد مصر الشاعر عبد الرحمن الأبنودي أحد أهم وأكبر شعراء الأغنية والقصيدة العامية المصرية، والذي ناضل كثيرًا ليغير مفهوم القصيدة ويخرجها من قالبها الزجلي القديم إلى القالب الحر، والذي سخر الشعر لمناصرة قضايا أمته؛ وهذا ما جعله متميزًا عن غيره من الشعراء.

مولد الأبنودي ونشأته

وُلد الأبنودي في (11) من إبريل عام (1938)م في قرية “أبنود” التابعة لمحافظة قنا، نشأ داخل أسرة فقيرة وبسيطة الحال، لكنها على قدر كافي من الثقافة والعلم فقد كان والده الشيخ/ محمود الأبنودي معلمًا للغة العربية وفقيهًا، وكان يعمل إمامًا وخطيبًا بالإضافة إلى عمله مأذونًا شرعيًا، وكان مُحبًا للأدب العربي والشعر.

وكانت والدته فاطمة قنديل التي كانت له كالقنديل الذي يهدي طريقه وينير له حياته، وصف “الأبنودي” العلاقة بينه وبين والدته بأنها تخترق أشعاره كافة، فقد كانت ملهمته ومعلمته الأولىٰ التي أرضعته الأشعار والأغنيات والتراث.

انتقل عبدالرحمن الأبنودي مع والديه إلى مدينة “قنا” ليواصل دراسته فيها حتى الثانوية، وكانت تلك المرحلة هي أولىٰ خطواته نحو عالم الشعر، تحديدًا في شارع “بني علي” أصغى “الأبنودي” آذانه الى أغاني السيرة الهلالية والتي كان لها الأثر في تكوين شخصيته وميوله نحو الشعر.

 الأبنودي يصف فترة شبابه

وصف “الأبنودي” هذه الفترة من حياته بأنها كانت انطلاقته القوية نحو الشعر وتأليف الأغاني، ومن شدة شغفه وحبه لسيرة بني هلال قام بتجميعها بعد أن تلقاها من ألسنة الشعراء واستغرق ذلك (30) عامًا من حياته.

قرر”الأبنودي” السير نحو أحلامه وآماله وتخلى عن وظيفته الحكومية قائلاً بأنها لم تكن تتفق مع شخصيته، انطلق خلف أفكاره نحو المجد واتجه إلى الشمال تاركًا خلفه بلده وأهله وطفولته وما قضاه من عمره في تراب الصعيد، انضم إلى صديقه وابن بلده الشاعر أمل دنقل؛ ليسير كل منهما نحو هدفه.

بداية مشوار الأبنودي نحو النجومية

في البداية لم يفتح الحظ أبوابه لهذا الشاب النحيل صاحب البشرة الحنطية واللهجة الجنوبية صعبة الفهم، ولكن بعدما نشر له الشاعر/ صلاح جاهين أولىٰ قصائده في مجلة “صباح الخير”، وغني له المطرب/ محمد رشدي؛ تبدلت الموازين وبدأ كبار المطربين والملحنين يفتشون عنه في ملتقيات الأدباء ويسعون خلفه للعمل معه، فبدأت تتفتح له أبواب المجد ومُهدت له طرق النجاح ليصل إلى مبتغاه وليصبح أحد أهم شعراء العامية المصرية.

كتب لكبار المطربين أشهرهم عبد الحليم حافظ الذي هيمن عليه هو والملحن/ بليغ حمدي؛ ليشكلوا معًا فريقًا لامعًا قدم الكثير والكثير من الأعمال الفنية العاطفية منها والوطنية. لم ينشغل “الأبنودي” في كتابة الأغاني عن القصيدة، التي كانت بدايته ونهايته، شهدت معه وعلى يديه القصيدة العامية مرحلة انتقالية مهمة في تاريخها، وقدم العديد من الأعمال التي تنوعت بين العاطفي والوطني والشعبي.

فصل”الأبنودى” بين حياته الأدبية وبين كونه شاعر عامية يعبر عن قضايا وطنه، وبين كتابته للأغنية والتي ما كانت سوى طريق للإنفاق على رحلته الأدبية ورحله الشعر وليس بهدف الشهرة وجني الأموال.

الأبنودي وحب الوطن

اشتهر “الأبنودي” بحب الوطن، وما جعله محبوبًا هو علاقته القوية بوطنه، كان الأبنودي شجاعاً لا يخشى شيئًا ويقول ما يشعر به مهما كان الثمن، أُعْتُقِلَ أشهُر خلال فترة حكم جمال عبد الناصر ولم تكن علاقته جيدة مع السادات؛ مما دفعه للانضمام إلى حزب التجمع اليساري، وما كان على وفاق مع الرئيس الراحل/ حسني مبارك، ووفق ما رواه أنه رثى عبد الناصر بعد (40) عامًا من رحيله بعدما رأي من خلفوه.

زواج الأبنودي من المذيعة نهال كمال

تزوج الفنان الراحل من المذيعة المصرية/ نهال كمال، وكان الخبر كالصاعقة على أذان الجميع، ووفق ما رواه الأبنودي أن البعض وصفه بأنه الذئب الذي التهم قطعة اللحم البيضاء، وكان يظن الجميع أنها ليست علاقة جدية وسرعان ما ستنتهي نظرًا للاختلاف الكبير بينهما، ولكن خابت توقعات الجميع فلم يؤثر هذا الاختلاف على علاقتهما، فقد استمرت حياتهما الزوجية حتى يوم وفاته تملؤها المودة والرحمة، ورُزقا بثمره حبهما وهما آية ونور.

دواوين ومؤلفات الأبنودي

كتب “الأبنودي” العديد من الدواوين الشعرية أشهرها (الأرض – العيال – الزحمة – الفصول – أنا والناس – بعد التحية والسلام – الموت على الأسفلت – وجوه على الشط – المشروع والممنوع – المد والجزر – صمت الجر – الاستعمار العربي)، وكتب أغاني العديد من المسلسلات منها مسلسل ذئاب الجبل والنديم، وشارك في كتابه حوار وسيناريو اثنين من أيقونات السينما المصرية، فيلم “شيء من الخوف” وفيلم “الطوق والأسورة”، كما كتب كتاب “أيامنا الحلوة” والذي يعد من أشهر كتبه، والذي نشره في حلقات مُنفصلة بملحق جريدة الأهرام، ويحكي فيه قصصًا ومقتطفات من حياته.

أصدرت دار ”المصري” للنشر والتوزيع كتاب “الخال” للكاتب الصحفي/ محمد توفيق والذي يتناول خلاله السيرة الذاتية للأبنودي، ويروى الكتاب قصص الأبنودي والأسرة وتجاربه المليئة بالخيرات والمفارقات والنجاحات والمواقف المختلفة.
قال عنه “توفيق” في مقدمة كتابه: “هذا هو الخال كما عرفته، مزيج من المواصفات التي تنوعت بين الصراحة والغموض بين الفن والفلسفة بين التعقيد والبساطة بين مكر الفلاح وشهامة الصعيدي بين ثقافة المفكرين وطيبة البسطاء، هو السهل الممتنع الذي ظن البعض -وبعض الظن إثم- أن تقليده سهل وتكراره ممكن”.

حصول الأبنودي على جائزة الدولة التقديرية

حصل “الأبنودي” على جائزة الدولة التقديرية في الآداب من المجلس الأعلى للثقافة عام (2001)م؛ ليكون بذلك أول شاعر عامية مصري يفوز بجائزة الدولة التقديرية، كما فاز بجائزة محمود درويش للإبداع العربي عام (2014)م، اشترك في أكثر من (400) أمسية شعرية في مصر ،وأكثر من (40) أمسية شعرية في العالم العربي.

سفر الأبنودي للإقامة في الإسماعيلية

ترك “الأبنودي” زحام القاهرة وشوارعها المليئة بأشعاره وأغنياته، واستقر مع زوجته وبناته في قرية ”الضبعية” بمحافظة الإسماعيلية، وقرر أن يقضي فيها ما تبقى من عمره وأوصى أن يدفن بها كأي مواطن عادى دون أن تعظم مراسم دفنه.

وفاة الأبنودي

وبعد صراع دام طويلًا مع المرض تُوفى ”الأبنودي” يوم (21) من شهر إبريل لعام (2015)م عن عمر يناهز (77)عامًا، وذلك إثر مضاعفات لحقت به بعد أن أجرى عدد من العمليات الجراحية، ولكن لم يؤثر المرض قط على قلبه الحر اليافع بالحيوية والشباب.

كلمة الأبنودي للشعب المصري

قال “الأبنودي” قبل وفاته مخاطبًا الشعب المصري: “أنت أكبر من عانى ولم ينصفك أحد حتى الآن، ولكن أهم شيء هو أن تحافظ على مصر”. لم ينس “الأبنودي” موطنه الأصلي، فبالرغم من نجاحاته وشهرته إلا أنه لم ينسلخ عن عباءة الرجل الصعيدي الذي يتحلى بالشهامة والبساطة، وبرغم مرضه وعلله ظل محافظًا على ضحكته الذهبية ووجهه البشوش، إنه ”الأبنودي” كما عرفناه قويًا شامخًا لا يهاب شيئًا.

ترك “الأبنودي” أثرًا لا ينسى في ساحات الشعر العربي وترك خلفه جمهورًا عريقًا من المعجبين في كافة أنحاء العالم يرددون قصائده وأغنياته، وتمكن من الوصول إلى القلوب ببساطة وعمق كلماته وقوة تعبيره.
كان “الأبنودي” و سيظل خالداً في جبين الشعر العامي العربي بكلماته وحضوره في كل الأحداث التي عاصرها والتي سوف يتوارثها كل الأحرار من جيل لآخر.
إنه الشاعر الكبير والابن البار والصديق الوفي والزوج الصالح والأب الحنون، إنه الخال كما عرفناه أول مرة بتركيبته الفريدة من نوعها والتي لم يسبق لنا لقاء مثيله، إنه الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي الذي سيبقى خالدًا في وجداننا بدواوينه وأشعاره وأغنياته حتى لو لم يكن حاضرًا بيننا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى